سوف أخبرك اليوم عن شيء لطيف وبسيط عن الناس في أمريكا. فلعل عقلك ما زال يحمل أسطورة قديمة عن دماثة أخلاق الشرقيين، كشيء يتميزون به دوناً عن بقية خلق الله.
في كتابه الجميل الذي قرأته قبل سفري “شمس الأصيل في أمريكا” لدكتور محمد الجوادي، أشار الكاتب إشارة سريعة أن الأمريكي له طباع شرقية أكثر منا نحن الشرقيين! وكان يعني بذلك سهولة تبادل التحية مع الغرباء العابرين. أما وقد عشت ما يربو على ستة أعوام مع معشر الأمريكيين (الملعونين عند معشر المعممين – من التعميم)، فقد رأيت مصداق ذلك حتى أصبح شيئاً معتاداً. لا لا، لم يصبح معتاداً تماماً عندي. بيني وبينك، مهما طال الأمد بك في مهجر، فإن أرض لقائك الأول بالحياة لا تفارقك أينما حللت أو رحلت. فأنت تقارن، وترى شيئاً هنا فتحاول أن تتذكر كيف كان الشيء ذاته هناك. بل وأحياناً ما تمارس أحلاماً لليقظة، مثلما أفعل حينما أرى شارعاً تسكنه بيوت بسيطة، ومع ذلك يحفه الشجر والخضرة، فأتخيل أنني أمشي في مصر وقد انصلح حالها، وذهب “الحامي الحرامي” إلى مكانه الطبيعي في سجن اللصوص، وبقية ما نعرفه جميعاً، مما يبدو كبديهة عقلية وبعيدة فعلية.
المهم أنني خطر لي أن أحدثك عما وجدت من مصداق ما قرأت عن هذا السلوك “الشرقي” في هذا البلد الغربي (وكل البلدان هي من أرض الله الواسعة وكل البشر خلقه – للتذكرة فقط). فأنت إن خرجت للتمشية فلا تستغرب – أبداً أبداً – إن مررت على أحدهم وهو جالس أو واقف أمام بيته فألقى عليك تحية أو بدأك بابتسامة. فإن مررت في طريقك بامرأة أو رجل فلا تتعجب أيضاً أن ينظر إليك أو تنظر، فتجد نفس التحية والابتسامة – بدون مناسبة. فلو خرجت يوماً للتمشية والجو دافيء مشمس، فقد تعود إلى بيتك وقد سلمت ليس على غريب واحد، بل اثنان أو ثلاثة، وربما أكثر. فإن لم تكن أنت خجولاً، ورفعت عينيك لتتصفح وجوه المارين بك، فسوف تحصد ابتسامات أكثر وتحيات.
وأنا أعلم أن المصري لو عاش ظروفاً أفضل وحياة أيسر لكان مثل ذلك. وأذكر يوماً كنت أتمشى مع مديري الفرنسي في مصر، فقابل سيدة فرنسية أتت حديثاً فتنامى إلى سمعي قوله لها: “إن المصريين قوم شديدو اللطف” Les egyptiens sont tres tres gentils، فسعدت في نفسي وقلت حسناً هكذا يقول عنا الغريب، فلله الحمد (وإن كان عقلي الشكاك قال لي أن بعضهم لطيف مع الشعر الأصفر واللسان الأعجمي لأنهما يعدان بدولار أخضر أو يورو! وإن بعض الظن إثم). ولعلنا نستعيد قدرتنا على اللطف مع بعضنا البعض، حين نفقد القدرة على اللطف مع اللص والمهمل، والمرتشي والمحتكر، والضابط المتسيد…(وأكمل القائمة بمعرفتك!).