الحياة في أمريكا

31 Mar, 2014

تربية الأبناء في أمريكا

الكاتب: محمد شدو | التصنيف: أسئلة القراء , الدين في أمريكا , الهجرة

طرح علي هذا السؤال من عدد من أصدقاء المدونة، وهو سؤال شائع في نفوس المهاجرين ولذلك أفرد له هذه التدوينة:

هل لا تخشي علي اولادك من ان يعيشوا في بلاد عاداتها مختلفه

تربية الأولاد في بلاد الغرب واحتمالات “فسادهم” بسبب هذه المجتمعات هاجس يقلق العديد من المهاجرين الشرقيين، لا سيما المتدينين. ولعل الدين والتقاليد المحافظة هما أكبر مصادر هذا القلق. لو حاولنا أن نتفهم هذه المخاوف فقد نلخصها – دون إخلال كثير – في الخوف من ابتعاد الأبناء عن دينهم وانخراطهم في علاقات جنسية خارج إطار الزواج. هذه أكبر المخاوف. وأكثر ما يخاف الآباء على أبنائهم في هذا الصدد هو خوفهم على بناتهم. فما رأيي في ذلك كمهاجر مسلم عربي اخترت الحياة في هذه البلاد الغريبة والغربية مما يتبع ذلك من احتمال نشأة الأبناء في هذا المجتمع؟ هذه إجابتي واجتهادي واختياري الشخصي، ولا يخفى عليك أنك قد تسمع إجابات تختلف باختلاف من يجيب عليها.

تعال أحدثك أولاً عما رأيته من نماذج حقيقية لأبناء المهاجرين الذين نشأوا في أمريكا. هل فسد أكثرهم وابتعد عن دينه؟ هل أكثر الفتيات العربيات والمسلمات اللاتي نشأن في أمريكا تركن الأهل للحياة مع رجال دون زواج؟ الإجابة هي كلا وكلا! لقد رأيت بالفعل بعض نماذج الأبناء الذين اندمجوا تماماً في أخلاق وعادات المجتمع الأمريكي وانسلخوا إليها من عادات أهلهم ودينهم. غير أن هذه النماذج لا تكاد تتعدي أصابع اليد الواحدة! فما عدد النماذج التي نشأت في أمريكا واحتفظ فيها الأبناء بدينهم وتقاليدهم؟ لا أكاد أحصي عدد من رأيتهم وعرفتهم من الفئة الثانية. الإجابة المختصرة إذن المبنية على التجارب العملية أن فساد الأبناء ممكن بالطبع وتأثرهم بعادات المجتمع وارد، لكنه ليس حتمي وليس بالأمر الغالب. وإجابتي على هذا السؤال تشمل أيضاً سؤالاً: ألا يفسد بعض الأبناء – عافانا الله وإياكم – في مجتمعاتنا العربية والمسلمة؟ الإجابة معروفة وبديهية! ألا يترك نفر من الشباب دينهم و/أو تقاليدهم في بلداننا أيضاً؟ نعم، بلا شك! فإذا خفت على أبنائك فاعلم أن حفظ الله لا تحده حدود البلدان، كما أن سبل الفساد موجودة أينما وجد الإنسان.

أما الحالات التي شاء الله لها أن يخرج الابناء فيها عن تقاليد ودين أهلهم، بدرجات متفاوتة، فعلينا أن ننظر فيها ونستكشف أسبابها. في أكثر ما رأيت من حالات واقعية، كانت هناك اختلافات بين الأبوين، أدت إلى الطلاق أو تدهور العلاقة بشدة، ولا يخفى على أحد ما لذلك من آثار سلبية على الأبناء، مهما اختلف الزمان والمكان. وفي حالات أخرى لا يبذل الأهل جهداً لتعليم أبنائهم ثقافتهم وينشغلون بالعمل ومتطلبات الحياة، ومن زرع حصد، أما من لم يزرع فلم يحزن إذا لم يأته الحصاد؟!

على المستوى الشخصي لا يمثل لي هذا الأمر أي داع للقلق، فأنا أؤمن كما أسلفت أن الهداية من عند الله وهي في متناول الإنسان في كل مكان في أرض الله الواسعة. ومثل كل شئون الحياة فأقصى ما يستطيعه الإنسان هو بذل الجهد والأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله. وما رأيته من نماذج كثيرة جميلة يؤكد أن تربية الأبناء تربية أخلاقية ودينية صالحة أمر ممكن دون شك في المجتمع الأمريكي.

أما وقد أوضحت ما أوضحت، ففيما يلي بعض النقاط التي أرى أن يتدبرها الآباء الذين يشعرون بالقلق على أبنائهم في المجتمع الأمريكي:

أهم ما عليك تفهمه وتقبله هو أن هجرتك ونشوء أبنائك في المجتمع الأمريكي لا يمكن أن يجعل منهم عرباً مائة في المائة وكأنهم يعيشون في بلدك الأم. هؤلاء أنصاف عرب أنصاف أمريكيين، لابد من تقبل هذه الحقيقة والتعامل معها، فأي إنسان هو ابن مجتمعه الصغير (الأسرة) ومجتمعه الكبير. لو أردت أن ينشأ أبناؤك عرباً مائة في المائة فلا تهاجر! هذا فيما يخص الثقافة واللغة. أما إن كان أكبر همك هو الخلق والدين، فما أكثر من هم على خلق ودين في المجتمع الأمريكي. فهو مجتمع يسمح للإنسان ويعطيه كل الفرص: فرص الترقي في العلم والثقافة والعمل وأي مجال يختاره الإنسان، وفرص اللهو والفساد.

إذا أردت مناخاً يسهل عليك الاحتفاظ لأبنائك بخلقهم ودينهم، فأهم ما يجب أن تبحث عنه هو مجتمع صغير تتوافر فيه القيم والأخلاقيات التي تريد تعزيزها في أبنائك. المجتمع الصغير الذي أعنيه هو من حولك من عائلات وأصدقاء. هنالك في أمريكا مدن من الصعب أن تجد فيها عدداً كبيراً من الأصدقاء والعائلات الآتية من نفس خلفيتك الثقافية والدينية. على سبيل المثال مدينة شيكاغو التي انتقلت إليها منذ بضعة أعوام فيها عدد كبير من المساجد والمدارس الإسلامية، وفيها كذلك عدد من الكنائس المصرية القبطية، وفيها مئات الألوف من العرب والمسلمين. هذه المميزات تتوفر عادة في المدن الأكبر حيث تكثر فيها أعداد الجاليات المهاجرة وبالتالي تسهل عليك تكوين مجتمع صغير من الأصدقاء المتناغمين معك ومع قيمك التي تريد الحفاظ عليها. المدن الأصغر تصغر فيها أعداد الجاليات الأجنبية وبالتالي قد تجد عدداً قليلاً من أبناء بلدك وثقافتك، وقد لا تجد.

 لا مفر من أن تنفتح أنت شخصياً على مجتمعك الجديد وأن تشعر بالانتماء له وأن تفهمه، حتى تستطيع تمييز الصالح من الطالح. هنالك في المجتمع والثقافة الأمريكية فرص كثيرة توفر للأبناء مناخاً ممتازاً لتنميتهم ثقافياً وعلمياً ولتنمية شخصياتهم وقدراتهم. لابد من أن يشعر الأبناء أن أهلهم قادرين على استيعاب مجتمعهم والتعامل معه. لابد أيضاً أن تكون توقعاتك من أبنائك واقعية فيما يخص ثقافتهم الأم والقيم التي تريد لهم الاحتفاظ بها. لابد أن تميز بين التقاليد التي تنتمي لثقافتك الأم والتي لا تمثل بالضرورة قيماً أخلاقية وبين القيم الجوهرية التي تتعدى المكان والزمان. وعلى سبيل المثال فإن إحدى كبريات المشكلات التي تواجه العائلات العربية هنا هي رغبة بناتهم (نعم البنات فقط فللذكور دائماً حقوق أكثر عند هذه الثقافات!) في الزواج من رجال من جنسيات مخالفة لجنسية وبلد الأبوين الأم. وكثيراً ما يكون الزوج من نفس الدين، لكن هؤلاء الآباء المسجونين في ثقافتهم الأم لا يدركون أن أبناءهم أمريكييون لا يعبأون كثيراً بالثقافة الأم لأزواجهم طالما أنهم يعيشون معهم في نفس المجتمع ويتبعون نفس الدين ومنظومة القيم.

فالخلاصة إذن في إجابتي للسؤال هي النفي: لا أخشى على أولادي (الذين ما زالوا في رحم الغيب) من نشأتهم في المجتمع الأمريكي، ولا أشعر أنه أسوأ من مجتمعاتنا العربية في فرص الاعوجاج عن الطريق المستقيم!

بدون تعليقات على "تربية الأبناء في أمريكا"

التعليقات مغلقة.

روابط جوجول الدعائية


عن الموقع

مدونة يكتبها مهاجر مصري يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، عن الحياة اليومية في أمريكا، والهجرة، وجوانب أخرى متعددة وصور من هذا البلد القارة.

تابع جديد المدونة على بريدك الالكتروني

أدخل بريدك الالكتروني هنا ثم قم بتفعيل الرابط الذي سيصلك في رسالة

Delivered by FeedBurner

فيديوهات صورتها في أمريكا